الرسائل البحرينية في المسألة الشيعية (82) :: 12 أبريل 2016م

فاجعة كربلاء والحقائق المغيبة

من الآفات التي ابتلينا بها في قراءة التاريخ: غلبة الحس التجميعي على الحس التحليلي النقدي عند الغالبية العظمى من مؤرخينا القدامى، خاصة إذا ما تعلق الأمر بأحداث الفتن، كموقعتي الجمل وصفين وفاجعتي كربلاء والحَرّة، والنتيجة الطبيعية لهذه المنهجية: الخلط الشديد والخطير بين الروايات الصحيحة والضعيفة والموضوعة. وما من حدث استغله المجوس لهدم الإسلام كما استغلوا حادثة كربلاء عام 61هـ.

 

عند الحديث عن المتسببين في الفاجعة، يأتي ذكر يزيد بن معاوية أولا، باعتباره الحاكم الذي جرى في ظله الحدث.. ثم يأتي ذكر بعض قادة يزيد، باعتبار أن يزيد لم يأمر بقتل سيدنا الحسين رضي الله عنه.. ثم يأتي ذكر أهل الكوفة، باعتبارهم بايعوا الحسين ثم غدروا به، بل وشاركوا في حربه.

 

وهناك اختلاف بين أهل السنة حول ترتيب المسئولية عن هذه المأساة، ولكن الأمر لا يتعدى -في الأخير- هذه الأطراف الثلاثة.

 

لنتمهل قليلا، ونراجع معا بعض مقدمات هذا الحدث:

 

(1)

صمم الحسين بن علي رضي الله عنهما على الخروج إلى الكوفة بعد استلامه لآلاف الرسائل من أهل الكوفة والتي تتضمن بيعتهم له. فماذا كان موقف سادة المسلمين في المدينة من تصميم الحسين على الخروج؟!

 

جاءه شقيقه محمد بن علي بن أبي طالب رحمه الله، ناصحا له بعدم الخروج، وطالبا منه التروي حتى تبايعه الأمصار، قائلا له: "يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزّهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك..". (البلاذري في أنساب الأشراف، والطبري في تاريخه)

لم يستمع الحسين لنصيحة أخيه.

 

وجاءه ابن عمه عبدالله بن العباس رضي الله عنهما محذرا له من الخروج: "فإني أعيذك بالله من ذلك.. ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبّوك ويخالفوك ويخذلوك"..

وقدم له اقتراحا بديلا: "فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة..". (الطبري في تاريخه، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والمزي في تهذيب الكمال)

أعرض الحسين عن تحذيرات ابن عمه.

 

وجاءه عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما محذرا: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟". (ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، والطبري في تاريخه)

 

وجاءه عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي رحمه الله يصيح محذرا: "لا آمن عليك أن يقتلك من وعدك ونصرك". (البلاذري في أنساب الأشراف، والطبري في تاريخه)

 

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "غلبني الحسين على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك، والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك". (ابن سعد في الطبقات، والمزي في تهذيب الكمال، وابن كثير في البداية والنهاية)

 

وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: "كلمت حسينا فقلت له: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني". (ابن سعد في الطبقات، والمزي في تهذيب الكمال، وابن كثير في البداية والنهاية)

 

وكتب إليه يزيد بن الأصم رحمه الله (وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها) قائلا: "أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أبوا إلا أن ينغصوك، وقلّ شيء نغص إلا قلق، وإني أعيذك بالله أن تكون كالمغتر بالبرق، أو كالمسبق للسراب، واصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون". (أبو نعيم في حلية الأولياء، والقشيري في تاريخ الرقة)

 

أما شيخ الصحابة في هذه الفترة، عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فقد حاول جاهدا ثـَنـْي الحسين عن الخروج، فلما رأى إصراره قال له: "استودعك الله من قتيل!". (ابن سعد في الطبقات، وابن حبان، والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق)

 

لم يستمع الحسين لكل هذه النصائح الغالية، وأصر إصرارا عجيبا على الخروج إلى دار الشقاق والنفاق، إلى الكوفة.

 

(2)

وقع حادث مهم للحسين ومن معه بعد خروجهم من المدينة، فقد التقى بالشاعر المعروف الفرزدق، فحدثه الحسين عن نيته التوجه إلى الكوفة قائلا له: "هذه كتبهم معي" (يقصد كتب البيعة من أهل الكوفة)، فرد عليه الفرزدق: "يخذلونك فلا تذهب، فإنك تأتي قوما قلوبهم معك وأيديهم عليك!". (ابن سعد في الطبقات، وخليفة بن خياط في تاريخه، والبلاذري في أنساب الأشراف، والطبري في تاريخه، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وغيرهم)

كانت هذه معلومة خطيرة تحدد حقيقة موقف أهل الكوفة.. ومضى الحسين!

 

(3)

قبل وصول الركب إلى الكوفة، جاء الخبر الفظيع بمقتل مسلم بن عقيل رحمه الله، وهو ابن عم الحسين ومبعوثه إلى أهل الكوفة. همّ الحسين بالرجوع، فاعترض إخوان مسلم بن عقيل، وأصروا على متابعة المسير للثأر لأخيهم المقتول! فرضح الحسين لرغبتهم! وقال: "لا خير في العيش بعد هؤلاء!". (ابن سعد في الطبقات، والطبري في تاريخه)

هل هذه مسألة شخصية حتى يتخذ الحسين مثل هذا الموقف، ويقول مثل هذا الكلام؟!

ألم تكن هذه ثورة، أو محاولة للإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟!

 

(4)

هل يكفي مبايعة أهل مصر من الأمصار، الكوفة، لإعلان الخروج على الخليفة يزيد، والاعتماد الكلي على بيعة هذه الولاية فقط من بين ولايات وأمصار الإسلام الكثيرة والشاسعة؟!

ثم إن الحسين رضي الله عنه لم يُبايَع حتى من قِبل أهل المدينة، وهم أهله وعشيرته وأكثر الناس حبا له ومعرفة بمنزلته. هذه حقيقة يجب عدم تجاوزها ضمن الكلام عن فاجعة كربلاء ومقدماتها.

 

(5)

وإذا افترضنا -جدلا- أن أهل الكوفة لم يغدروا بالحسين، وأنهم تمكنوا وبقيادة الحسين من السيطرة على الكوفة وأعمالها.. ماذا كان سيفعل (الثوار) بمسلمي البصرة وفارس والشام ومصر والحجاز واليمن.. هل كانوا سيخضعونها بالقوة، لتعود حروب ومآسي الجمل وصفين من جديد؟! خاصة وأن التاريخ أثبت أن الذين بايعوا حسينا لم يراعوا في مسلم إلاّ ولا ذمّة؟ّ!

 

...

حقيقة مرة لا بد من الاعتراف بها يا أهل السنة والجماعة، مهما كانت هذه الحقيقة مؤلمة.. ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ولا تخافوا من رميكم بتهمة (النصب)، أي مناصبة العداء لأهل البيت الأطهار الأشراف، فوالله ما من ملة أكثر نصبا للعداء لأهل بيت رسول الله، ولصحابة رسول الله من المجوس.

 

كانت حركة الحسين رضي الله عنه حركة عشوائية وبحسن نية لا شك، لا تخطيط ولا تدبير ولا سياسة.

كان رحمه الله صاحب نفسية تواقة للثورة، وشخصية تشتعل حماسا وعاطفة.

 

كان الحسين يختلف اختلافا كليا عن شقيقه الأكبر الحسن بن علي رضي الله عنه، وهذا سيكون موضوع مقالنا القادم.