الرسائل البحرينية في المسألة الشيعية (84) :: 27 أبريل 2016م

تغييب الوعي لحظة تدوين التاريخ

هذا هو المقال الرابع والأخير في هذه السلسلة الخاصة بـ(فقه التاريخ)، أو (الفكر التاريخي)..

 

(1)

تغييب الوعي وتجهيل العقل ظاهرة صاحبت التعاطي مع علم التاريخ: قديما عند (تدوين) التاريخ، وحديثا عند (قراءة) هذا التاريخ.

أين كان الوعي والعقل عندما كتب الإمام السيوطي رحمه الله كتابه (تاريخ الخلفاء)؟!

 

كتب السيوطي يقول عند الحديث عن استشهاد الحسين رضي الله عنه:
"ولمّا قُتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضا.. واحمرّت السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحُمرة تُرى فيها بعد ذلك"!! (تاريخ الخلفاء، ص 170)

 

ويقول: "لم يقلب حَجَر ببيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط.. وتكلم رجل في الحسين بكلمة، فرماه الله بكوكبين من السماء فطُمس بصره"!! (المصدر السابق)

 

الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله، المفسر المحدث الفقيه الأصولي النحوي، يخرج تماما من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال عندما يكتب في بعض مجالات التاريخ!

 

(2)

ومثال آخر معاصر. استمعنا إلى الداعية الكويتي المعروف الشيخ محمد العوضي حفظه الله وهو يتكلم عن يزيد بن معاوية رحمه الله، واستشهد الشيخ بالحديث الصحيح "أولُ جيش من أمّتي يغزونَ مدينة قيصر مغفورٌ لهم" (صحيح البخاري)..

وحاول الشيخ جاهدا (فك الارتباط) بين المغفرة وبين يزيد!! وادعى أن غزو القسطنطينية كان عام 52هـ وأن يزيد ارتكب ما ارتكب بعد عام 60هـ وبالتالي انتهى أمد المغفرة!!

 

لم أسمع في حياتي مَن يحاول لَيّ عنق النصوص بهذه الطريقة.. ثم ما هذا الأسلوب الغريب في محاولة التحكم في النص الشريف؟!

 

ثم ذكر الشيخ حفظه الله ما اعتبره مساوئ يزيد بن معاوية، ونفى أي قيمة للرأي الآخر حول يزيد، مدعيا أن "الرأي الصحيح إنما هو الرأي المشهور"!

 

وهذه منهجية غير سليمة تماما في التحليل التاريخي حول الأشخاص والأحداث، فكثير مما هو مشهور ليس إلا أوهام وأكاذيب. وإليكم بعض الأمثلة:

 

● المشهور أن طارق بن زياد أحرق السفن وقال للمسلمين المجاهدين الأبطال: "العدو من أمامكم والبحر من ورائكم، فأين المفر"!!.. ولكن هذا (المشهور) مجرد خرافة، وقد ألف الدكتور عبد الحليم عويس رحمه الله رسالة مفيدة حول هذا الموضوع بعنوان (قضية إحراق طارق بن زياد للسفن بين الأسطورة والتاريخ).

 

● المشهور عن الوزير بهاء الدين قراقوش أنه كان قاسيا وظالما وصاحب أحكام مضحكة، وضرب به المثل فقيل: (حكم قراقوش)، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فهو واحد من أكثر الوزراء في تاريخ الإسلام عدلا وحزما وتدبيرا، ولهذا وزّره صلاح الدين رحمه الله واعتمد عليه في كثير من الأمور. وقد مدحه المؤرخون وأثنوا عليه خيرا، كما فعل ابن كثير في (البداية والنهاية)، وابن خلّكان في (وفيات الأعيان)، وابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة).. ومع كل ذلك، فقد ترك الناس ما هو (موثوق) إلى ما هو (مشهور). وللأستاذ سمير علي عزام رسالة مفيدة في توضيح شخصية هذا الوزير المظلوم.

 

(3)

إنه لمن أكثر الأمور غرابة أن يتناقش بعض علماء أهل السنة قديما في موضوع: هل يجوز لعن يزيد أم لا! أو هل يزيد كافر أم مسلم!

 

أولا، هذا مخالف تماما لمنهج أهل السنة في عدم جواز لعن أو تكفير المعيّن.

 

ثانيا، نتساءل: هل ناقش أحد من العلماء مسألة هل يجوز لعن الزنادقة الذين قتلوا أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه! أو عبدالرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه! أو ابن جرموز، الذي قتل وقطع رأس الزبير بن العوام رضي الله عنه، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم!

 

(4)

ثمة خطأ منهجي فظيع وقع فيه بعض علماء أهل السنة في تناول الأحداث التاريخية التي تتعلق بالفتن.

 

ما هي القيمة العلمية لهذا النص: "في كتاب الثقات لابن حبان: قيل إن يزيد بن معاوية سكر ليلة وقام يرقص فسقط على رأسه وتناثر دماغه فمات"!!..

ما قيمة "قيل إن" في ميزان النقد العلمي، وعمن يروي ابن حبان، ومن هم رواة هذه الخرافة، إن كان هناك رواة أصلا!

 

أصبح مثقفونا يلجئون إلى هذه الروايات الجاهزة المجهزة ويتبنونها، دون محاولة تتبع هذه الروايات ومعرفة أسانيدها من حيث القوة والضعف. ألسنا (أمة الإسناد).. ألسنا نقول "البيّنة على من ادعى"؟!

أصبح البعض يتناول مسائل تاريخية حساسة وهو متكئ على أريكته، متناولا كوبا من الشاي، من دون بذل أي جهد لمعرفة الحقيقة وتتبع كل الروايات الواردة في المسألة الواحدة، والتعرف على حكم العلماء في أسانيدها.

 

رأينا الأحكام تصدر تباعا بدون دراسة، والتاريخ يُقرأ بعين واحدة. في موضوع فاجعة كربلاء ووقعة الحَرّة، نجد أنفسنا أمام ركام هائل من الأكاذيب والخرافات، مقابلها روايات أخرى موجودة في كتب التاريخ بأسانيد صحيحة ومقبولة، ولكن ماذا حدث: الروايات الأولى هي التي انتشرت وتم تبنيها، والروايات الأخرى هي التي أُريد لها التجاهل والنسيان!

 

في فتنة الحَرّة، يتداولون الروايات الساقطة علميا، ويتجاهلون أو يجهلون الروايات الثابتة، من أقوال ومواقف، صدرت عن سادة المسلمين في ذلك الوقت، من أمثال ابن عمر وابن عباس ومحمد بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، والتي تعطي صورة أخرى عن يزيد وعن وقعة الحَرّة.. هذا عيب خطير!

 

(5)

لم يُظلم أحد في التاريخ الإسلامي كما ظُلم يزيد بن معاوية، وللمجوس دور بارز في هذا، والهدف واضح:
تجريم يزيد واتهامه بكل أنواع الجرائم والموبقات..
ثم يأتي السؤال: من الذي مكّن ليزيد؟ إنه معاوية، فهو أيضا سبب في كل هذه الجرائم..
ومن الذي مكّن لمعاوية؟ إنه عثمان بن عفان الذي ثبّته واليا على الشام..
ومن قبله عمر بن الخطاب، وهو أول من عين معاوية واليا..
ومن قبلهما أبو بكر الصديق، الذي أرسل معاوية إلى الشام ضمن جيش الفتح.

 

هل فهمتم القصة الآن؟!

 

(6)

 يعاني بعض مثقفينا اليوم، كما بعض علمائنا قديما، من عقدة نقص غير مبررة، ومن إحساس بالذنب في غير موضعه، كل ذلك نتيجة لبعض أحداث التاريخ الإسلامي، ومحاولة منهم لتبرئة أهل السنة، والتبرؤ من تهمة التغاضي عن مظالم أهل البيت.

إضافة إلى مشكلة أخرى صاحبت تدوين التاريخ قديما، وذلك عندما كتب التاريخ في أحيان كثيرة بأقلام سنية، ولكن بمداد شيعي!