ولاية الفقيه: البابوية في نسختها الشيعية
في العصور الوسطى، كان لبابا النصارى في الفاتيكان سلطة لا تدانيها سلطة، وكانت جموع الكاثوليك تتعامل معه بوصفه ممثلا للربّ! ووكيلا عن المسيح! فكان هذا البابا يدخل من يشاء الجنّة بصكوك الغفران! ويدخل من يشاء النار بصكوك الحرمان!!
ثم تخلصت أوروبا شيئا فشيئا من سطوة البابا، وهمّشت من دور الدين كثيرا..
نقول: أوروبا "همّشت الدين" ولم "تلحد في الدين"!
فقد أبقت على قدر كاف من دينها المحرّف ليظل محرّكا لها في تعاملها مع الأديان الأخرى، خاصة الإسلام.
مرّت الأيام، واندلعت الثورة الكهنوتية في إيران عام 1979م، فإذا نحن أمام سلطة بابوية جديدة ولكن تحت راية إسلامية(!!) وتحت مسمّى جديد هو "ولاية الفقيه"، وقائد يحمل لقب "وليّ أمر المسلمين"!!
تعريف
ولاية الفقيه مصطلح ديني في الفقه الشيعي، يقصد بها (ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة ورعاية شئون الموالين).
حسب هذا التعريف، فإن الفقيه له الحق في قيادة الأمّة (الشيعية) باعتبار أن الحاكم الشرعي الأصلي وهو المهدي غائب!!
ولكن كيف تستقيم هذه القيادة وهي تتناقض مع مبدأ رئيس عند الشيعة الاثنى عشرية، ألا وهو حرمة العمل على إقامة الدولة في عصر الغيبة الكبرى، وهي الغيبة التي بدأت عام 329هـ وما زالت مستمرة إلى اليوم، وستستمر حتى يتفضل علينا صاحب السرداب فيطلّ علينا بطلعته البهيّة، فينهي بذلك عصر الغيبة؟؟!!
إن كتب كبار كهنة الشيعة القدامى تزخر بتحريم السعي لإقامة الدولة لأن ذلك من اختصاص الإمام المعصوم الغائب، و"كل راية ترفع في عصر الغيبة فهي راية ضلالة"!.. "وكل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت"! وحتى في ظل الدولة الصفوية (1501-1722م) فإن عموم فقهاء الشيعة قد تعاملوا معها باعتبارها سلطة دنيوية وأمر واقع، وليس باعتبارها معنية بالنيابة عن الإمام الغائب.
عجالة تاريخية
1) مرّ الفكر السياسي الشيعي الاثنى عشري في العصر الحديث بفترة كثيرة الحرج بسبب عقيدة تحريم العمل السياسي في عصر الغيبة، خاصة بعد التلاقح الفكري والسياسي مع العالم الغربي مع الموجة الاستعمارية الحديثة.
2) شهد القرن 13هـ (19م) بداية التحرك الجريء للخروج من أزمة (عقم الفكر السياسي الشيعي)! حيث ألّف الملاّ أحمد النراقي (ت1245هـ) كتابه الشهير (عوائد الأيام)، واستخدم فيه للمرة الأولى مصطلح (ولاية الفقيه)، باعتبار أن للفقيه ولاية تماثل ولاية الرسول والإمام المعصوم! فأثار بذلك أزمة فكرية داخل الساحة الشيعية ما تزال مستمرة إلى اليوم.
3) تصدى بعض كبار فقهاء الشيعة لنظرية النراقي، التي أعطت للفقيه صلاحيات عامّة ومطلقة، بما ويتناقض مع (نظرية الانتظار) الشيعية. فقد اعتبر هؤلاء الفقهاء أن للفقيه صلاحيات محدودة ومعينة فقط، كالفتيا والقضاء والحسبة ورعاية أبناء الطائفة، بما لا يتناقض مع أصول النظرية الشيعة في انتظار المعصوم الغائب!.
4) بدأ بعض كبار مراجع الشيعة المعاصرين بالكلام والكتابة في مسألة ولاية الفقيه، وكان في مقدمة هؤلاء الخميني (ت1989م) ومحمد الشيرازي (ت2001م) وحسين منتظري (ت2009م).
5) كان للخميني بالذات دور كبير في الترويج للنظرية من خلال الدروس الحوزوية التي كان يلقيها على طلبته في منفاه النجفي. يقول الخميني: "قد مرّ على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمرّ ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر، وفي طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟؟". (الحكومة الإسلامية للخميني)
ولاية الفقيه: نظرية أم نظريات!
انقسم كهنة الشيعة في مواقفهم من (ولاية الفقيه) إلى عدة آراء. يقول الكاتب الشيعي السعودي توفيق السيف ناقلا عن بعض الفقهاء: "جوهر الخلاف هو طبيعة الولاية التي تمنحها النظرية للفقيه، وحدود هذه الولاية .. حيث يجري النقاش بصورة مركّزة حول قدرة كلّ من الأدلّة التي قدّمها أصحاب النظرية على حمل المدلول". (نظرية السلطة في الفقه الشيعي ص162)
وألّف المعمم الإيراني آية الله محسن كديوَر كتابا خاصّا عن تعدد نظريات الحكم في الفقه الشيعي، وقد كتب في مقدمة كتابه أن "فقهاء الشيعة اقترحوا حتى الآن ما لا يقلّ عن تسع نظريات مختلفة في باب الحكم. بل أن النظرية الرسمية (الحاكمة) تتطلب للوقوف عليها بدقة، أن تُقرأ على ضوء النظريات الأخرى وتقارَن بها". (نظريات الحكم في الفقه الشيعي، المقدّمة)
هذا الكلام أغضب (الوليّ الفقيه خامنئي) مما تسبب في اعتقال كديوَر في الفترة 1999-2000م ليسجن في سجن إيفين الرهيب مع السفلة والمجرمين!
أهم نظريات ولاية الفقيه
1) الولاية العامّة المطلقة، التي لا تحدّها حدود! وهي نظرية خميني، والتي تُحكم بها إيران اليوم، وتتبنّاها أذنابها في بعض الدول الأخرى، كحزب اللاة في لبنان، وجمعية الوفاق في البحرين.
2) الولاية العامّة المطلقة لشورى الفقهاء، أي أن الفقهاء المراجع يشكلون مجلسا مشتركا للحكم، فلا تكون السلطة في يد شخص واحد. وهي نظرية محمد الشيرازي منافس الخميني.
3) الولاية الخاصّة الجزئية، أي في أمور محددة فقط، ويتبنّاها كثير من فقهاء الشيعة، كمحسن الحكيم (ت1970م)، وأبي القاسم الخوئي (ت1992م)، وعلي السيستاني.
4) ولاية الأمة على نفسها، وهي نظرية محمد مهدي شمس الدين (ت2001م) والتي سرق فكرتها من منهجية الشورى السنّية!
5) نظرية الخلافة والشهادة، والتي قال بها محمد باقر الصدر (ت1980م)، وهي مزيج من نظريتي خميني وشمس الدين!
لمن كانت الغلبة؟!
إن النظرية التي سادت وتمكنت وتحولت إلى نظام للحكم في إيران هي نظرية خميني (ولاية الفقيه العامّة المطلقة).
والسبب في غلبة هذه النظرية أن خميني وأتباعه قد فرضوها بالقوة، غصبا عن أنوف المراجع الآخرين!
فرضوها بقوة تقدّر بنصف مليون مسلّح من الباسداران (الحرس الثوري)، وثلاثة ملايين مسلّح من الباسيج (مليشيا التعبئة)!!
صلاحيات الولي الفقيه
صلاحيات الوليّ الفقيه حسب ما جاء في المادة (110) من الدستور الإيراني:
1) تعيين أعضاء مجلس صيانة الدستور.
2) تعيين رئيس السلطة القضائية.
3) تعيين وعزل رئيس أركان الجيش وكافة المناصب القيادية العليا في القوات المسلحة والحرس الثوري.
4) إعلان الحرب والسلام.
5) الموافقة على نتائج الانتخابات الرئاسية.
6) عزل رئيس الجمهورية.
7) إقرار الاستراتيجيات والسياسات العامّة للجمهورية.
يقول خامنئي: "طبقاً للفقه الشيعي يجب على كل المسلمين إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين والتسليم لأمره ونهيه، حتى على
سائر الفقهاء العظام فكيف بمقلِّديهم! ولا نرى الالتزام بولاية الفقيه قابلاً
للفصل عن الالتزام بالإسلام وبولاية الأئمة المعصومين عليهم السلام"!!.
(مكتب سماحة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الحسيني الخامنئي)
عجـائـب!!
1) ينتخب الشعب رئيس الجمهورية، ويعزله الوليّ الفقيه متى شاء!!
2) ينتخب الشعب مجلس الشورى، ويسلّط الوليّ الفقيه على هذا المجلس مجلسا آخر هو مجلس صيانة الدستور ليحدّ من صلاحيات المجلس المنتخب!!
3) يتم اختيار الوليّ الفقيه من قبل مجلس الخبراء. وهذا المجلس أعضاؤه من الموالين للوليّ الفقيه ومعيّنين بتأثير مباشر أو غير مباشر منه!!
الشورى في نظرية ولاية الفقيه
الشورى، هذا المبدأ الإسلامي العظيم.. انظروا إلى قيمته في المنظومة الكهنوتية الإيرانية.. يقول آية الله العظمى محمود الهاشمي الشاهرودي رئيس السلطة القضائية في إيران وأحد أعمدة نظام الوليّ الفقيه: "إن الشورى والانتخابات والاختيار على أساس الانتخاب من البدع التي جاءتنا من الغرب، ومن ثقافة المخالفين في الولاية (أي أهل السنّة والجماعة).. ولم يكن له عين ولا أثر في الإسلام"!. (نظرة جديدة في ولاية الفقيه للشاهرودي)